فصل: (بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ):

قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّمَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا عَنْهُ، لَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصُنْعِهِ جَدِيدَةً حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ):
أَعْقَبَهُ الْخُرُوجُ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يُرَادُ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ بَقَاءُ الْبِنْيَةِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقولهِ تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} عَلَى مَا يُقَالُ.
وَالْأَكْلُ إيصَالُ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ إلَى الْجَوْفِ وَإِنْ ابْتَلَعَهُ بِلَا مَضْغٍ.
وَالشُّرْبُ إيصَالُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ كَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالنَّبِيذِ هَكَذَا فِي التَّجْرِيدِ.
وَذَكَرَ الزندوستي أَنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ وَالْحَلْقِ.
وَالذَّوْقَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ دُونَ الْحَلْقِ.
وَالِابْتِلَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْحَلْقِ دُونَ الشِّفَاهِ.
وَالْمَصَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ اللَّهَاةِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ فِي فَمِهِ شَيْءٌ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَابْتَلَعَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ.
وَفِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّوَابُ.
إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَكَلَ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْضَغُ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِإِيصَالِ مَا بِحَيْثُ يُمْضَغُ إلَى الْجَوْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قولهُ عَمَلُ الشِّفَاهِ إنَّمَا يُرَادُ حَرَكَتُهَا فَهُوَ فِي الْكُلِّ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَحْنَثَ بِبَلْعِ مَا كَانَ فِي فَمِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةِ شَفَتَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ هَشْمُهَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الذَّوْقَ عَمَلُ الْفَمِ لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الطَّعْمِ وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ لَا.
قِيلَ فَكُلُّ أَكْلٍ ذَوْقٌ وَلَيْسَ كُلُّ ذَوْقٍ أَكْلًا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَكْلَ إذَا كَانَ إيصَالَ مَا بِحَيْثُ يُهْشَمُ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ الْفَمِ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا مِنْ وَجْهٍ فَيَجْتَمِعَانِ فِي إيصَالِ مَا هُشِمَ فَإِنَّ الْهَشْمَ عَمَلُ الْفَمِ: أَعْنِي الْحَنَكَيْنِ، وَيَنْفَرِدُ الذَّوْقُ فِيمَا لَمْ يُوصَلْ وَالْأَكْلُ فِيمَا اُبْتُلِعَ بِلَا مَضْغٍ مِمَّا بِحَيْثُ يُمْضَغُ وَلَا يُعْرَفُ طَعْمُهُ إلَّا بِالْمَضْغِ كَقَلْبِ اللَّوْزِ وَالْجَوْزِ، لَكِنَّ فِي الْمُحِيطِ: حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ لَا يَحْنَثُ بِالذَّوْقِ.
وَمَا رَوَى هِشَامٌ: حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَيَمِينُهُ عَلَى الذَّوْقِ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنْ لَا يَصِلَ إلَى جَوْفِهِ إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَحْوُ أَنْ يَقول تَعَالَى تَغَدَّ مَعِي فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ مَعَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَهَذَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ مَفْهُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الذَّوْقِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْأَكْلِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الذَّوْقِ، وَاَلَّذِي يَغْلِبُ ظَنُّهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُحِيطِ يُرَادُ بِهَا الْأَكْلُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَضْغِ أَوْ الْبَلْعِ لِمَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ طَعْمِهِ عَلَى الْمَضْغِ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ ابْتِلَاعَ قَلْبِ لَوْزَةٍ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَاقَ اللَّوْزَ وَلَا يَحْنَثُ بِبَلْعِهَا، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ فَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ مَعَهُ حَنِثَ، وَلَوْ عَنَى بِالذَّوْقِ الْأَكْلَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَجَعَلَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْمِي ثُفْلَهُ وَيَبْتَلِعُ الْمُتَحَصِّلَ بِالْمَصِّ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا بَلْ مَصٌّ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ ثَرَدَ فِيهِ فَأَوْصَلَهُ إلَى جَوْفِهِ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَثَرَدَ فِيهِ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ.
قِيلَ هَذَا إذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُسَمَّى خردن، فَإِذَا قَالَ نمى خرم بِلَا نِيَّةٍ صُدِّقَ عَلَيْهِمَا فَيَحْنَثُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَهَذَا حَقٌّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَجَفَّفَهُ وَدَقَّهُ ثُمَّ مَرَسَهُ بِالْمَاءِ فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَكَلَهُ مَبْلُولًا حَنِثَ، وَالسَّوِيقُ إذَا شَرِبَهُ بِالْمَاءِ يَكُونُ شُرْبًا لَا أَكْلًا.
فَإِنْ بَلَّهُ بِالْمَاءِ فَأَكَلَهُ حَنِثَ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا) بِالْمُثَلَّثَةِ: أَيْ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ، وَمِثْلُهُ لَا يَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْأَكْلِ قَبْلَ الْيَمِينِ فَيَلْغُو الْحَلِفُ فَوَجَبَ لِتَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ صَرْفُهَا إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا تَجَوُّزًا بِاسْمِ السَّبَبِ وَهُوَ النَّخْلَةُ فِي الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الْخَارِجُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِيهِ لَكِنْ بِلَا تَغَيُّرٍ بِصُنْعٍ جَدِيدٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالنَّاطِفِ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ.
وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَهُوَ مَا يَسِيلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّطَبِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا صَقْرُ الرُّطَبِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرَّامِخِ وَالْجُمَّارِ وَالطَّلْعِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى الصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ مُطْلَقًا وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ فِي قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} وَقِيلَ لِأَنَّ مَا تَحَصَّلَ بِالصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ ابْتِدَاءً مِنْ النَّخْلَةِ، وَمِنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ يَمِينُهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ: مِنْ. الْمَذْكُورَةَ فِي كَلَامِهِ دَاخِلَةٌ عَلَى النَّخْلَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ لَا ابْتِدَائِيَّةٌ، نَعَمْ مِنْ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّأْوِيلِ: أَعْنِي قولهُ لَا آكُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلَةِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَالْمَذْكُورِ؛ وَمِثْلُهُ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكَرْمِ فَهُوَ عَلَى عِنَبِهِ وَحِصْرِمِهِ وَزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ.
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دِبْسِهِ وَالْمُرَادُ عَصِيرُهُ فَإِنَّهُ مَاءُ الْعِنَبِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ بِلَا صُنْعٍ عِنْدَ انْتِهَاءِ نُضْجِ الْعِنَبِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ كَامِنًا بَيْنَ الْقِشْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ لَا يَحْنَثُ بِزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَتْ مَهْجُورَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحَلِفُ بِمُسَمَّى الْعِنَبِ، ثُمَّ انْصِرَافُ الْيَمِينِ إلَى مَا يَخْرُجُ فِي الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ الشَّجَرَةِ فِيمَا إذَا كَانَ لَهَا ثَمَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَمَرَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى ثَمَنِهَا فَيَحْنَثُ بِهِ: أَيْ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَأْكُولًا.
فَرْعٌ:
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقَطَعَ غُصْنًا مِنْهَا وَوَصَلَهُ بِشَجَرَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ هَذَا الْغُصْنِ لَا يَحْنَثُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْنَثُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ صَارَ اللَّبَنُ شِيرَازًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ صِفَةَ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا كَوْنُهُ لَبَنًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الدَّاعِي دَاعِيًا فِي الشَّرْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ شِيرَازًا) أَيْ رَائِيًا وَهُوَ الْخَاثِرُ إذَا اُسْتُخْرِجَ مَاءَهُ فَأَكَلَهُ (لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِصِفَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ تَقَيَّدَ بِهِ فِي الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ.
فَإِذَا زَالَتْ زَالَ الْيَمِينُ عَنْهُ، وَمَا لَا تَصْلُحُ دَاعِيَةً اُعْتُبِرَ فِي الْمُنَكَّرِ دُونَ الْمُعَرَّفِ؛ وَصِفَةُ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ مِمَّا قَدْ تَدْعُو إلَى الْيَمِينِ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ، وَكَذَا صِفَةُ اللَّبَنِيَّةِ فَإِذَا زَالَتْ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَأَكَلَهُ أَكَلَ مَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ، وَيُخَصُّ اللَّبَنُ وَجْهُ ذِكْرِهِ بِقولهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ لَا عَلَى مَا يَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِشِيرَازِهِ وَلَا بِسَمْنِهِ وَزُبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا يُخَالُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ مِنْ جَهْلِهِ وَسُوءِ أَدَبِهِ إذَا كَانَ الشَّارِعُ مَنَعَنَا مِنْ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ قَدْ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَبَ الِاتِّبَاعُ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ الْهِجْرَانَ قَدْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ إذَا كَانَ لِلَّهِ بِأَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ أَوْ يُخْشَى فِتْنَةٌ أَوْ فَسَادٌ عَرَضَهُ بِكَلَامِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ الْهِجْرَانَ مُطْلَقًا فَحَيْثُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ لَا يُحْكَمُ إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُسَوِّغَ، وَإِذَا وُجِدَ اُعْتُبِرَ الدَّاعِيَ فَتَقَيَّدَ بِصِبَاهُ وَشَبِيبَتِهِ وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ) لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ عَنْهُ أَكْثَرُ امْتِنَاعًا عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ) فَلَا تَقْيِيدَ بِهِ فَانْعَقَدَتْ عَلَى ذَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَبْشًا لِوُجُودِ ذَاتِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً لِأَنَّ الصِّغَرَ دَاعٍ إلَى الْأَكْلِ لَا إلَى عَدَمِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ عَنْهُ مَعَ صُلُوحِهِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا عَنْهُ كَبْشًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَمَلَ لَيْسَ مَحْمُودًا فِي الضَّأْنِ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِ زِيَادَةً حَتَّى قِيلَ فِيهِ النَّحِسُ بَيْنَ الْجَيِّدَيْنِ بِخِلَافَةِ كَبْشًا فَإِنَّ لَحْمَهُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ قُوَّةً وَتَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ لِقِلَّةِ رُطُوبَاتِهِ فَصَارَ كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَأَكَلَهُ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ مِثْلِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ ذُهُولٌ عَنْ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَنِسْيَانٌ أَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى الْعُرْفِ فَيُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَى الْمُعْتَادَةِ فِي الْعَمَلِ وَالْعُرْفِ فِي الْقول، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَوْ أَرَادَ مَعْنًى تَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
فَفِي مَسْأَلَةِ الْحَمَلِ الْعُمُومُ يُفَضِّلُونَهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ غِذَاءٌ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ وَمَا يُدْرِكُ نَحِسَهُ إلَّا أَفْرَادٌ عَرَفُوا شَيْئًا مِنْ الطِّبِّ فَوَجَبَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يُصْرَفَ الْيَمِينُ إلَى ذَاتِ الْحَمَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَالِحًا فِي الْغَايَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْفَرْدِ مِنْ الْعُمُومِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهِمْ فَيَنْصَرِفُ حَلِفُهُ إلَيْهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْحَمَلِيَّةُ قَيْدًا، وَكَذَا الصَّبِيُّ لَمَّا كَانَ مَوْضِعَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ، وَفِي الشَّرْعِ لَمْ يُجْعَلْ الصِّبَا دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْعُمُومِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَاتِهِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ حَالِفٍ مِنْ النَّاسِ عَرَفَ عَدَمَ طِيبِ الْحَمَلِ وَسُوءَ أَدَبِ صَبِيٍّ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْدَعُهُ إلَّا تَرْكُ الْكَلَامِ مَعَهُ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُ يَضُرُّهُ فِي عِرْضِهِ أَوْ دِينِهِ فَعَقَدَ يَمِينَهُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى مُدَّةِ كَوْنِهِ حَمَلًا، وَفِي الثَّانِي عَلَى مُدَّةِ صِبَاهُ.
فَإِنَّا نَقول: لَوْ أَرَادَ حَالِفٌ تَقْيِيدَهُ بِالْحَمَلِيَّةِ وَالصِّبَا لَمْ نَمْنَعْهُ وَصَرَفْنَا يَمِينَهُ حَيْثُ صَرَفَهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُسْلَكُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ أَخْطَئُوا فِيهِ أَوْ أَصَابُوا فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْك بِبَالٍ فَإِنَّك تَدْفَعُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْغَلَطِ الْمُورَدِ عَلَى الْأَئِمَّةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ) وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى خُصُوصِ صِفَةِ الْبُسْرِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا دَاعِيَةٌ لِلْيَمِينِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا فَأَكَلَ مُذَنِّبًا حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ فِي الرُّطَبِ) يَعْنِي بِالْبُسْرِ الْمُذَنِّبِ وَلَا فِي الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ الْمُذَنِّبِ لِأَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى رُطَبًا وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى بُسْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ.
وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ، وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ فَيَتْبَعُ الْقَلِيلُ فِيهِ الْكَثِيرَ.
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ وَالْمَغْلُوبَ تَابِعٌ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْأَكْلَ يُصَادِفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا أَوْ لَا يَأْكُلُهُ فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ وَأَكَلَهَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الشِّرَاءِ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا وَلَا رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا) بِكَسْرِ النُّونِ: وَهُوَ مَا بَدَا الْإِرْطَابُ مِنْ ذَنَبِهِ (حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ) هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ، وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُعْتَبَرَةِ مِثْلِ الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِهِ وَكَافِي الْحَاكِمِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ للإسبيجابي وَشُرُوحِ الْجَامِعَيْنِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ وَالْمَنْظُومَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَغْلِبُ ظَنُّ خَطَأِ خِلَافِهِ ذُكِرَ فِيهَا قول مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا، وَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ اتِّفَاقًا.
وَخِلَافِيَّتَانِ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا.
وَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ لَا يُسَمَّى رُطَبًا لِأَنَّ الرُّطَبَ فِيهِ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الرُّطَبَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِيَّةِ لَا يُسَمَّى بُسْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ.
وَكَذَا لَا يَحْنَثُ فِي شِرَائِهِمَا بِحَلِفِهِ لَا يَشْتَرِي بُسْرًا أَوْ رُطَبًا.
وَوَجْهُ قولهِمَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ أَكْلُ رُطَبٍ وَبُسْرٍ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ أَكْلَ كُلِّ جُزْءٍ مَقْصُودٌ لِأَنَّهُ يَمْضَغُ وَيَبْلَغُ بِمَضْغٍ وَابْتِلَاعٍ يَخُصُّهُ فَلَا يَتْبَعُ الْقَلِيلُ مِنْهُ الْكَثِيرَ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْقَلِيلُ فِيهِ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ.
وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَادَفَ الْمَجْمُوعَ فَكَانَ الرُّطَبُ تَابِعًا، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ذَكَرَهُ الشَّهِيدُ فِي كَافِيهِ.
وَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلْمَذْكُورِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فَصَلَهُ فَأَكَلَهُ وَحْدَهُ.
أَمَّا لَوْ أَكَلَ ذَلِكَ الْمَحَلَّ مَخْلُوطًا بِبَعْضِ الْبُسْرِ تَحَقَّقَتْ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ، وَثَانِيًا هُوَ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْعُرْفِ وَإِلَّا فَالرُّطَبُ الَّذِي فِيهِ بُقْعَةُ بُسْرٍ لَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ بُسْرٍ فِي الْعُرْفِ فَكَانَ قول أَبِي يُوسُفَ أَقْعَدَ بِالْمَبْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ (وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ.
وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ (وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا إلَخْ) تَنْعَقِدُ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْغَنَمِ وَالطُّيُورِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا، وَفِي حِنْثِهِ بِالنِّيءِ خِلَافٌ الْأَظْهَرُ لَا يَحْنَثُ، وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ يَحْنَثُ، فَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أَيْ مِنْ الْبَحْرِ وَهُوَ السَّمَكُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ لِمَنْ اسْتَفْتَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا فَرَجَعَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا يَحْنَثُ، فَقَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ تعالى: {وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطًا} فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: كَأَنَّك السَّائِلُ الَّذِي سَأَلْتنِي أَمْسِ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالَ سُفْيَانُ: لَا يَحْنَثُ فِي هَذَا وَلَا فِي الْأَوَّلِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقول.
وَظَهَرَ أَنَّ تَمَسُّكَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ بِالْعُرْفِ لَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجَازِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِي السَّمَكِ لِسُكُونِهِ الْمَاءَ، وَلِذَا حَلَّ بِلَا ذَكَاةٍ.
فَإِنَّهُ يُنْقَضُ بِالْأَلْيَةِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ مِنْ الدَّمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِمَكَانِ الْعُرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا وَلَا تَذْهَبُ أَوْهَامُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى سَمَكًا عُدَّ مُخَالِفًا، وَأَيْضًا يَمْنَعُ أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ بِاعْتِبَارِ الِانْعِقَادِ مِنْ الدَّمِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِالْتِحَامِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا أَوْ لَا يَجْلِسُ عَلَى وَتَدٍ فَجَلَسَ عَلَى جَبَلٍ لَا يَحْنَثُ مَعَ تَسْمِيَتِهَا فِي الْقُرْآنِ دَابَّةً وَأَوْتَادًا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ، أَمَّا إذَا نَوَاهُ فَأَكَلَ سَمَكًا طَرِيًّا أَوْ مَالِحًا حَنِثَ.
فَرْعٌ:
لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ نَوَاهُ.
قولهُ: (وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ وَالْيَمِينُ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَرَامِ مَنْعًا وَحَمْلًا وَإِنْ وَجَبَ فِي الْحَمْلِ أَنْ يَحْنَثَ، بِخِلَافِ النَّذْرِ لِلنَّصِّ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمَّا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ وَلَا تَذْهَبُ الْأَوْهَامُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ إلَى أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ سُمِّيَ فِي الْعُرْفِ لَحْمُ الْآدَمِيِّ لَحْمًا وَكَذَا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْعُرْفُ فِي قولنَا أَكَلَ فُلَانٌ لَحْمًا كَمَا فَعَلْنَا فِي لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي رَكِبَ فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْهُ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَتَقَيَّدَ الرُّكُوبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِهِ.
ثُمَّ نَقَلَ الْعَتَّابِيُّ خِلَافَهُ فَقَالَ: قِيلَ الْحَالِفُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ أَكْلَهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي الْكَافِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَمَا قِيلَ الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ لَا يُقَيِّدُ اللَّفْظَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ رَدَّا عَلَى الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَكَيْفَ تَجِبُ بِفِعْلٍ هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إنَّمَا يُرَاعَيَانِ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، وَإِنَّمَا عَلِقَ بِهِمَا حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ وَحْدَهُ لِيَكُونَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَوْصُوفًا بِالْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ الْإِبَاحَةُ لِلْيَمِينِ وَالْحَظْرُ لِلْحِنْثِ، وَهَذَا انْصِرَافٌ عَنْ الْمَذْهَبِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْحِنْثُ وَكَوْنُهُ الْيَمِينَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُغْنِي عَنْ التَّهَالُكِ فِي إثْبَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ تَسْلِيمًا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ، وَلَكِنَّا شَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْحِنْثَ لِمَا ذُكِرَ، وَحِينَئِذٍ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَيُوجِبُ بُطْلَانَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إلَى الشَّرْطِ لَا إلَى السَّبَبِ، وَكُلُّ هَذَا بِسَبَبِ الْتِزَامِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحِنْثِ، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا جَبْرًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَائِتَةِ بِالْحِنْثِ مَعْصِيَةً كَانَ الْحِنْثُ أَوْ طَاعَةً وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِنْثَ إذَا كَانَ وَاجِبًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَمَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ وَاجِبًا حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَهُّمٌ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْوَاجِبِ الْحَرَامِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ نَهْيًا عَنْهُ وَطَلَبًا لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ بِعَيْنِهِ مَطْلُوبَ الْعَدَمِ مَطْلُوبَ الْإِيجَادِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا وَهْمًا مِنْ الْأَوْهَامِ، وَمِثْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ، وَلَا جِنَايَةَ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا) أَوْ رِئَةً أَوْ قَلْبًا أَوْ طِحَالًا: يَعْنِي يَحْنَثُ لِأَنَّ نَمْوَةَ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَفِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ، وَذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ أَيْضًا.
وَلَوْ أَكَلَ الرَّأْسَ وَالْأَكَارِعَ يَحْنَثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ.
وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ إلَّا إذَا نَوَاهُ فِي اللَّحْمِ.
بِخِلَافِ شَحْمِ الظَّهْرِ يَحْنَثُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ فِي الْوُجُودِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَحْمٌ سَمِينٌ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ أَيْضًا) وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةِ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَكْلِ اللَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى بَيْعِ الشَّحْمِ، وَقِيلَ هَذَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ بِيه بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةَ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ) فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نَفْسِ مُسَمَّاهُ، وَلِذَا اسْتَثْنَى فِي قوله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فَيَحْنَثُ بِهِ (وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ) فِي اتِّخَاذِ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالْقَلَايَا فَيُجْعَلُ قِطَعًا وَيُلْقَى فِيهَا لِيُؤْكَلَ أَكْلَ اللَّحْمِ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِالشَّحْمِ (وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ اللَّحْمَ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ شَحْمًا) وَالْقَاطِعُ بِنَفْيِ قولهِمَا إنَّ الْعُرْفَ لَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الشَّحْمِ إلَّا مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَائِعُهُ شَحَّامًا فِي الْعُرْفِ، وَبَائِعُ ذَلِكَ يُسَمَّى لَحَّامًا، وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ تَسْمِيَتُهَا شَحْمًا فِي آيَةِ الِاسْتِثْنَاءِ.
وَقول بَعْضِ الشَّارِحِينَ شَحْمُ الظَّهْرِ إمَّا أَلْيَةٌ أَوْ لَحْمٌ أَوْ شَحْمٌ لَا قَائِلَ إنَّهُ أَلْيَةٌ وَلَيْسَ بِلَحْمٍ لِأَنَّهُ يُذَوَّبُ دُونَ اللَّحْمِ.
وَأَيْضًا يُقَالُ لَهُ شَحْمُ الظَّهْرِ لَا لَحْمُ الظَّهْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ شَحْمٌ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَذُوبُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ يَلْزَمُ كَوْنُ الذَّوْبِ لَيْسَ لَازِمًا مُخْتَصًّا، وَاللَّوَازِمُ جَازَ كَوْنُهَا مُسَاوِيَةً لِمَلْزُومِهَا وَكَوْنُهَا أَعَمَّ مِنْهُ فَتَشْتَرِكُ الْأَنْوَاعُ الْمُتَبَايِنَةُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَجَازَ كَوْنُ الذَّوْبِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ بِلَحْمٍ وَفِي بَعْضِ مَا هُوَ لَحْمٌ وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ وَكَذَا نَمْنَعُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ لَحْمُ الظَّهْرِ بَلْ نَقْطَعُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ لَحْمٌ سَمِينٌ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا لَحْمُ الظَّهْرِ أَوْ مِنْ الظَّهْرِ لَمْ يُعَدَّ مُخْطِئًا، وَلِذَا صَحَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قول مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ، وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ قولهِ فَصَارَتْ الشُّحُومُ أَرْبَعَةً: شَحْمُ الظَّهْرِ.
وَشَحْمٌ مُخْتَلِطٌ بِالْعَظْمِ، وَشَحْمٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْعَاءِ.
وَشَحْمُ الْبَطْنِ، فَفِي شَحْمِ الْبَطْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّلَاثَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، بَلْ لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ بِمَا فِي الْعَظْمِ.
قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ: إنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ شَحْمٌ.اهـ.
وَكَذَا لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي الْحِنْثِ بِمَا عَلَى الْأَمْعَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَسْمِيَتِهِ شَحْمًا.
قولهُ: (وَقِيلَ هَذَا) أَيْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ بيه بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ فَلَا يَحْنَثُ إذَا عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: نمى خرم بيه ثُمَّ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ حَتَّى لَا يُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا أَوْ قَالَ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ) وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي حَلِفِهِ عَلَى اللَّحْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا فِي يَمِينِ الشَّحْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الشَّحْمِ فَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِهِ.
فُرُوعٌ:
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ شَاةٍ فَأَكَلَ لَحْمَ عَنْزٍ يَحْنَثُ.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يَحْنَثُ مِصْرِيًّا كَانَ الْحَالِفُ أَوْ قَرَوِيًّا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ فِيهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الْجَامُوسِ يَحْنَثُ لَا فِي عَكْسِهِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَعَمَّ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ النَّاسَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا سَمَّاهُ فَمَضَغَهُ حَتَّى دَخَلَ جَوْفَهُ شَيْءٌ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا فِي الْعِنَبِ فَازْدَرَدَ.
فَإِنْ رَمَى الْقِشْرَ وَالْحَبَّ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ رَمَى قِشْرَهُ فَقَطْ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ وَالْحَبَّ حَنِثَ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْأَكْثَرَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ الْحَلْوَى فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ مِنْ الْحَلْوَى مِنْ الْخَبِيصِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ السُّكَّرِ أَوْ النَّاطِفِ حَنِثَ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ.
قَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِعِيِّ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ بِالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْخَبِيصِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِلْحًا فَأَكَلَ طَعَامًا مَالِحًا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْفُلْفُلَ فَأَكَلَ طَعَامًا فِيهِ فُلْفُلٌ، إنْ وَجَدَ طَعْمَ الْفُلْفُلِ يَحْنَثْ.
وَالْفَقِيهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمِلْحِ وَالْفُلْفُلِ، فِي الْفُلْفُلِ يَحْنَثُ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمِلْحِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَأْكُلْ عَيْنَهُ مُفْرَدًا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَانَ وَقْتَ الْحَلِفِ دَلَالَةٌ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الطَّعَامِ الْمَالِحِ، وَيَقول الْفَقِيهُ يُفْتِي.
وَفِي الْخُلَاصَةِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِلْحِ خَتْنِهِ فَأَخَذَ مَاءً وَمِلْحًا وَجَعَلَهُمَا فِي الْعَجِينِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ تَلَاشَى.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَطُبِخَ بِأُرْزٍ فَأَكَلَهُ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ رُئِيَتْ عَيْنُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ مَاءً.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: إذَا كَانَ يُرَى عَيْنُهُ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَعْفَرَانًا فَأَكَلَ كَعْكًا عَلَى وَجْهِهِ زَعْفَرَانٌ يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا السَّمْنَ فَجَعَلَهُ خَبِيصًا فَأَكَلَهُ يَحْنَثُ، إلَّا إذَا وَجَدَ طَعْمَهُ وَلَمْ يَرَ عَيْنَهُ فَلَا يَحْنَثُ.
وَكَذَا عَلَى هَذَا التَّمْرُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ فَجَعَلَهُ عَصِيدَةً فَأَكَلَهَا لَا يَحْنَثُ، وَفِي أَكْلِ هَذَا السُّكَّرِ لَا يَحْنَثُ بِمَصِّ مَائِهِ، وَلَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ سَخْلَةٍ اشْتَرَاهَا فُلَانٌ لَا يَحْنَثُ، وَعَلَى أَنَّ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ مَرَقَةٌ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ قَلِيلَةٌ لَا يَعُدُّهَا إذَا عَلِمَ بِهَا أَوْ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ غُرِفَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، كَمَا لَوْ سَخَّنَتْ الْمَحْلُوفُ عَلَى طَعَامِهَا مَا طَبَخَهُ غَيْرُهَا.
وَفِي التَّجْرِيدِ: قِيلَ اسْمُ الطَّبْخِ يَقَعُ بِوَضْعِ الْقِدْرِ لَا بِإِيقَادِ النَّارِ، وَقِيلَ لَوْ أَوْقَدَ غَيْرُهَا فَوَضَعَتْ هِيَ الْقِدْرَ لَا يَحْنَثُ.اهـ.
وَفِي عُرْفِنَا لَيْسَ وَاضِعُ الْقِدْرِ طَابِخًا قَطْعًا وَمُجَرَّدُ الْإِيقَادِ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى صَبِيُّ الطَّبَّاخِ: يَعْنِي مُعِينَهُ، وَالطَّبَّاخُ هُوَ الْمُرَكَّبُ بِوَضْعِ التَّوَابِلِ وَإِنْ لَمْ يُوقِدْ.
وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ: حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُؤْكَلُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَا يُؤْكَلُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، فَعَقْدُ الْيَمِينِ فِي الْأَوَّلِ عَلَى بَدَلِهِ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا مِمَّا اشْتَرَاهُ إذَا بَاعَهُ فَأَكَلَهُ، وَكَذَا مِنْ مِيرَاثِهِ إذَا أَخْرَجَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ وَيَحْنَثُ قَبْلَهُ، بِخِلَافِ مَا زَرَعَ فُلَانٌ يَحْنَثُ بِهِ عِنْدَ الزَّارِعِ، وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْسَخُهُ الشِّرَاءُ، أَمَّا لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ ذَلِكَ الزَّرْعَ فَبَذَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ، وَمِثْلُهُ مِنْ طَعَامٍ يَصْنَعُهُ فُلَانٌ فَصَنَعَهُ وَبَاعَهُ فَأَكَلَ يَحْنَثُ، وَكَذَا مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَاكْتَسَبَ وَمَاتَ فَوَرِثَ عَنْهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَلَوْ انْتَقَلَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَشْتَرِي ثَوْبًا مَسَّهُ فُلَانٌ فَمَسَّهُ فُلَانٌ فَبَاعَهُ مِنْهُ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَصْبٍ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الثَّمَنَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ إثْمُ الدِّرْهَمِ، أَمَّا لَوْ أَكَلَ خُبْزًا غَصَبَهُ حَنِثَ، وَلَوْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْخُبْزِ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ: يَعْنِي إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ.
وَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ أَوْ قِرْدٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ نَصْرٌ: بِهِ نَأْخُذُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّهُ حَرَامٌ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: مَا كَانَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حَرَامًا مُطْلَقًا وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَوْ اُضْطُرَّ لِأَكْلِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَيْتَةِ اخْتَلَفُوا، وَالْمُخْتَارُ يَحْنَثُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بُرًّا فَطَحَنَهُ إنْ أَعْطَى مِثْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ.
وَفِي الْأَجْنَاسِ الْمَعْتُوهُ وَالْمُكْرَهُ إذَا فَعَلَا شَيْئًا حَرَامًا فَهُوَ لَيْسَ بِحَلَالٍ لَهُمَا.
وَلَوْ أَكَلَ مِنْ الْكَرْمِ الَّذِي دَفَعَهُ مُعَامَلَةً لَا يَحْنَثُ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يُشْكِلُ، وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّمَا أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا حَنِثَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى وَتُغْلَى وَتُؤْكَلُ قَضْمًا وَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ.
وَلَوْ قَضَمَهَا حَنِثَ عِنْدَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ.
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقولهِ فِي الْخُبْزِ حَنِثَ أَيْضًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ يَعْنِي وَلَا نِيَّةَ لَهُ) لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا غَيْرَ نِيئَةٍ، وَلَوْ قَضَمَهَا نِيئَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ دَقِيقِهَا أَوْ سَوِيقِهَا، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ، وَقَالَا: إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَيْضًا حَنِثَ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ خُبْزِهَا مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً: يَعْنِي يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ أَكَلَ الْحِنْطَةَ حَقِيقَةً: أَيْ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ فَإِنَّهُ مَعْنًى ثَابِتٌ، فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَأْكُلُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ بِلَادِنَا بَلِيلَةً، وَتُقْلَى: أَيْ تُوضَعُ جَافَّةً فِي الْقِدْرِ ثُمَّ تُؤْكَلُ قَضْمًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقَضْمِ بِخُصُوصِهَا وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ بَلْ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَهَا بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ أَوْ بِسُطُوحِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فَهِيَ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلُ خُبْزِهَا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ فَأَكَلَ لَبَنَهَا أَوْ سَمْنَهَا أَوْ زُبْدَهَا أَوْ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَةِ فَأَكَلَ مِنْ فَرْخِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهَا إذَا كَانَ مَأْكُولًا وَهُمَا يَعْكِسَانِ هَذَا الْأَصْلَ وَيَرَيَانِ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى، وَرُجِّحَ قولهُمَا بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يُرِيدُ الْعُرْفَ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ انْصَرَفَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَقَرَةِ وَالْبَيْضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّفْظِ مَجَازٌ أَشْهَرُ لِيُرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَاَلَّذِي يَغْلِبُ أَنَّ التَّعَارُفَ وَالْأَكْثَرِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَهُوَ نَفْسُ فِعْلُ أَكْلِ خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ أَكَلْت الْيَوْمَ الْحِنْطَةَ أَوْ لَا آكُلُ حِنْطَةً فِيهِ بَلْ لَفْظُ أَكَلْت حِنْطَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْلُ عَيْنِهَا كَمَا يُرَادُ مَا يُخْبَزُ مِنْ دَقِيقِهَا فَيَتَرَجَّحُ قول أَبِي حَنِيفَةَ لِتَرَجُّحِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ مُسَاوَاةِ الْمَجَازِ، لَا يُقَالُ: أَكْثَرِيَّةُ الْمَعْنَى تُوجِبُ أَكْثَرِيَّةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ.
لِأَنَّا نَقول: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ بِهِ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلْت خُبْزَ الْحِنْطَةِ، وَيُقَالُ أَكَلْت الْحِنْطَةَ، بَلْ الْآنَ لَا يُتَعَارَفُ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ مِنْهَا إلَّا لَفْظٌ آخَرُ وَهُوَ أَكَلْت الْخُبْزَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْلَ الْخُبْزِ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْقَضْمِ أَوْ الْقَضْمُ فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ اتِّفَاقًا، وَقَضَمَ يَقْضِمُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا قَضَمَهَا.
وَصَحَّحَهَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَرَجَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ رِوَايَةَ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَحْنَثُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقولهِ حَنِثَ فِي الْخُبْزِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْقَضْمِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بَلْ يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ زَحْفًا لِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي الدُّخُولِ.
وَلَوْ أَكَلَ مِنْ سَوِيقِهَا حَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَيَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا ذُكِرَتْ مَقْرُونَةً بِالْأَكْلِ يُرَادُ بِهَا الْخُبْزُ دُونَ السَّوِيقِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْمَجَازِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَفَ عَلَى حِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.
جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَحَكُّمٌ.
وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إيرَادِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ يَعُمُّ الْمُعَيَّنَةَ وَالْمُنَكَّرَةَ وَهُوَ أَنَّ عَيْنَهَا مَأْكُولٌ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ) لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ (وَلَوْ اسْتَفَّهُ كَمَا هُوَ لَا يَحْنَثُ) هُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ) فَيَحْنَثُ بِعَصِيدَتِهِ.
وَفِي النَّوَازِلِ لَوْ اتَّخَذَ مِنْهُ خَبِيصًا أَخَافُ أَنْ يَحْنَثَ، فَلَوْ اسْتَفَّ عَيْنَهُ لَا يَحْنَثُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مُرَادًا فِي الْعُرْفِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَإِذَا نَوَاهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ، وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قول مَنْ قَالَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ.
قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ وَلَمَّا تَعَيَّنَ إرَادَةُ الْمَجَازِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ كَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَزَنَى بِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْصِرَافِ يَمِينِهِ إلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْوَطْءَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُعْتَادُ أَهْلُ الْمِصْرِ أَكْلَهُ خُبْزًا) وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ (وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الْقَطَائِفِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا إلَّا إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ (وَكَذَا لَوْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِالْعِرَاقِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ أَوْ فِي بَلْدَةٍ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ يَحْنَثُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ مِصْرِهِ خُبْزًا وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ) وَلَوْ كَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يُعْتَادُونَ أَكْلَ الشَّعِيرِ لَا يَحْنَثُ بِهِ.
وَلَوْ اعْتَادُوا خُبْزَ الذُّرَةِ كَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقَطَائِفِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ الْكَمَاجِ لِأَنَّهُ خُبْزٌ وَزِيَادَةٌ، فَالِاخْتِصَاصُ بِاسْمٍ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا تَفَتَّتَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا، وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَصِيدِ وَالطَّطْمَاجِ، وَلَا يَحْنَثُ لَوْ دَقَّهُ فَشَرِبَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حِيلَةِ أَكْلِهِ أَنْ يَدُقَّهُ فَيُلْقِيَهُ فِي عَصِيدَةٍ وَيُطْبَخُ حَتَّى يَصِيرَ الْخُبْزُ هَالِكًا، وَلَا يَحْنَثُ فِي خُبْزِ الْأُرْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ يَعْتَادُونَهُ كَمَا فِي طَبَرِسْتَانَ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا طَبَرِيٌّ وَهُوَ اسْمُ آمُلَ وَأَعْمَالِهَا.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَنْصَارِيَّ بِبَغْدَادَ يَقول إنَّمَا هِيَ تَبَرِسْتَانُ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يُحَارِبُونَ بِالْفَاسِ فَعُرِّبَ فَقِيلَ طَبَرِسْتَانُ.
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: طَبَرِسْتَانُ مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْفَاسُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِ الطَّبَرُ وَهُوَ مُعَرَّبُ تَبَرَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَ السَّمْعَانِيُّ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: وَقَدْ سُئِلْت لَوْ أَنَّ بَدْوِيًّا اعْتَادَ أَكْلَ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَدَخَلَ بَلْدَةً الْمُعْتَادُ فِيهَا أَكْلُ خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَاسْتَمَرَّ هُوَ لَا يَأْكُلُ إلَّا الشَّعِيرَ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَقُلْت: يَنْعَقِدُ عَلَى عُرْفِ نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ بِالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ إلَّا إذَا كَالَ الْحَالِفُ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْهُمْ فِيهِ فَيُصْرَفُ كَلَامُهُ إلَيْهِ لِذَلِكَ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بَلْ هُوَ مُجَانِبٌ لَهُمْ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ فَقَطْ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ) الْمَشْوِيَّيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالْفُولِ الْأَخْضَرِ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا شَوِيُّ الْعَرَبِ وَقولنَا فِي ذَلِكَ قول أَحْمَدَ.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ) يَعْنِي بِالْمَاءِ حَتَّى إنَّ مَا يُتَّخَذُ قَلِيَّةً مِنْ اللَّحْمِ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الدَّوَاءَ مِمَّا يُطْبَخُ، وَكَذَا الْفُولُ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْفُولُ الْحَارُّ، وَلَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ طَبِيخًا فَيَنْصَرِفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ أَخَصُّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِمَرَقٍ وَهُوَ مُتَعَارَفٌ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ مِنْ الْبَاذِنْجَانِ مِمَّا يُطْبَخُ فَيَحْنَثُ بِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ بِلَا لَحْمٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ إذَا طُبِخَ بِوَدَكٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ طُبِخَ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ.
قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: الطَّبِيخُ يَقَعُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّحْمَ بِالْمَاءِ طَبِيخٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِ اللَّحْمِ حَنِثَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ الْمَرَقَ الَّذِي طُبِخَ فِيهِ اللَّحْمُ حَنِثَ، وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمَنْقول خِلَافُهُ.
وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا مِنْ قولهِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا: يَعْنِي فِي الْعُرْفِ، بِخِلَافِ مَرَقِ اللَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْعُرْفِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ) وَيُقَالُ يُكْنَسُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهِمَا وَفِي زَمَنِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً وَفِي زَمَانِنَا يُفْتَى عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ) فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيُبَاعُ فِيهَا مِنْ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ، فَكَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهَا ثُمَّ صَارَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَرَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَفِي زَمَانِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً فَوَجَبَ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَقَعَ فِيهِ حَلِفُ الْحَالِفِ كَمَا هُوَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ الْعَادَةَ كَمَا هِيَ فِي الرُّءُوسِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ أَوْ الْبَقَرِ مَعَهَا كَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى لَحْمِ مَا يَحِلُّ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَأَكْلِهِ، مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِهِمَا فَحَنِثَ بِأَكْلِ لَحْمِهِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ فِيهَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ: يَعْنِي اللُّغَوِيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّعَارُفِ حِينَئِذٍ، وَاللَّحْمُ يُمْكِنُ فِيهِ أَكْلُ كُلِّ مَا يُسَمَّى لَحْمًا فَانْعَقَدَ بِاعْتِبَارِهِ، بِخِلَافِ الرُّءُوسِ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ حَقِيقَتِهَا إذْ هِيَ مَجْمُوعُ الْعَظْمِ مَعَ اللَّحْمِ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَنَقَصَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِي الرُّءُوسِ عَلَى الْعُمُومِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُ الشِّرَاءِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ مِنْ الرُّءُوسِ مَا لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ كَرَأْسِ الْآدَمِيِّ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا أُورِدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا رَكِبَ كَافِرًا وَهُوَ دَابَّةٌ حَقِيقَةً فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْرِ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ إمْكَانَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ عُمُومِهِ مُنْتَفٍ إذْ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلُ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ رُكُوبُهُ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهَذَا يَهْدِمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ فَوَجَبَ عِنْدَ عَدَمِ نِيَّتِهِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَتَقَدَّمَ تَصْحِيحُ الْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ عَدَمَ الْحِنْثِ وَلَيْسَ إلَّا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَنْظُورًا إلَيْهِ لَمَا تَجَاسَرَ أَحَدٌ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْفُرُوعِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا وَمِشْمِشًا حَنِثَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: حَنِثَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ: أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ، وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِيَابِسِ الْبِطِّيخِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقول بَيْعًا وَأَكْلًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا.
وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ فَهُمَا يَقولانِ إنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا وَيُتَدَاوَى بِهَا فَأَوْجَبَ قُصُورًا فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ) وَكَذَا يَحْنَثُ بِالْخَوْخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ: أَيْ يُتَنَعَّمُ وَيُتَلَذَّذُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْغِذَاءِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا يُقَالُ النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ وَالْمِزَاحُ فَاكِهَةٌ وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ: أَيْ فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ خَصَّتْ الْعَادَةُ التَّفَكُّهَ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى كَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهَا خَصَّتْ التَّفَكُّهَ بِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ دُونَ حَالِ يُبْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ يَابِسًا، وَهَذَا مَعْنَى: أَيْ مَعْنَى التَّفَكُّهِ بِأَنْ يُؤْكَلَ زِيَادَةً عَلَى الْغِذَاءِ مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَالْمِشْمِشِ فَيَحْنَثُ بِهَا اتِّفَاقًا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقول بَيْعًا وَأَكْلًا حَتَّى يُوضَعَانِ عَلَى الْمَائِدَةِ كَمَا يُوضَعُ الْبَقْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ وَهِيَ مَحِلُّ الْخِلَافِ فَوَجْهُ قولهِمَا أَنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا بَلْ هِيَ أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: هِيَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا مُنْفَرِدَةً حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي قِيَامِ الْبَدَنِ وَمَقْرُونَةً مَعَ الْخُبْزِ وَيُتَدَاوَى بِبَعْضِهَا كَالرُّمَّانِ فِي بَعْضِ عَوَارِضِ الْبَدَنِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهَا يُتَفَكَّهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ أَصَالَةً لِحَاجَةِ الْبَقَاءِ قَصُرَ مَعْنَى التَّفَكُّهِ فَلَا يَحْنَثُ بِأَحَدِهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْنَثُ بِالثَّلَاثَةِ اتِّفَاقًا، وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ كَحَبِّ الرُّمَّانِ وَمِنْ الْأَقْوَاتِ وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ.
وَالْمَشَايِخُ قَالُوا: هَذَا اخْتِلَافُ زَمَانٍ، فَفِي زَمَانِهِ لَا يَعُدُّونَهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَأَفْتَى عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَفِي زَمَانِهِمَا عُدَّتْ مِنْهَا فَأَفْتَيَا بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُخَالِفُ هَذَا الْجَمْعَ، فَإِنَّ مَبْنَى هَذَا الْعُرْفُ، وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَبْنَاهُ اللُّغَةُ حَيْثُ قَالَ الْفَاكِهَةُ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةً، وَالتَّفَكُّهُ بِالشَّيْءِ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ أَصَالَةً، وَهَذَا مَعْنَى اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْعِنَبِ وَأَخَوَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ دَائِمًا فَقَصُرَ إلَخْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ بِجَوَازِ كَوْنِ الْعُرْفِ وَافَقَ اللُّغَةَ فِي زَمَنِهِ ثُمَّ خَالَفَهَا فِي زَمَانِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اللُّغَةُ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَيُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ أَحْيَانَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نَقْصِ كَوْنِهِ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ وَالْمِلْحُ إدَامٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُوَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَنَحْوِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الِاخْتِلَاطِ حَقِيقَةٌ لِيَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَفِي أَنْ يُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ حُكْمًا، وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا، وَالْخَلُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرَبُ، وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ بِانْفِرَادِهِ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ تَبَعًا، بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَمَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ، وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ هُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ) كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ وَالْمَرَقِ وَالْمِلْحِ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الذَّوْبِ فِي الْفَمِ وَيَحْصُلُ بِهِ صَبْغُ الْخُبْزِ، وَاصْطُبِغَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الصَّبْغِ، وَلَمَّا كَانَ ثُلَاثِيُّهُ وَهُوَ صَبَغَ مُتَعَدِّيًا إلَى وَاحِدٍ جَاءَ الِافْتِعَالُ مِنْهُ لَازِمًا فَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُقَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ إذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لَهُ فَإِنَّمَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنْ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ وَنَحْوِهِ، فَلِذَا يُقَالُ اُصْطُبِغَ بِهِ وَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ، وَمَا لَمْ يَصْبُغْ الْخُبْزَ مِمَّا لَهُ جُرْمٌ كَجُرْمِ الْخُبْزِ وَهُوَ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُصْبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَمَا ذَكَرْنَا إدَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا كَالْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَأَمْثَالِهَا لَيْسَ إدَامًا بِالْإِجْمَاعِ: أَيْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، خِلَافًا لِمَا قِيلَ إنَّهُمَا عَلَى الْخِلَافِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَ الِاتِّفَاقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّمْرُ وَالْجَوْزُ لَيْسَا بِإِدَامٍ، وَكَذَا الْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ وَالْبَقْلُ، وَكَذَا سَائِرُ الْفَوَاكِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُؤْكَلَانِ تَبَعًا لِلْخُبْزِ يَكُونُ إدَامًا، أَمَّا الْبُقول فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ آكِلَهَا لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا إلَّا مَا قَدْ يُقَالُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَكْلِهِمْ الْكُرَّاثَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبُقول وَالْبَصَلُ وَسَائِرُ الثِّمَارِ إدَامٌ.
وَفِي التَّمْرِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ إدَامٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةٍ وَقَالَ هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لَيْسَ إدَامًا لِأَنَّهُ فَاكِهَةً كَالزَّبِيبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُبْنِ وَالْبِيضِ وَاللَّحْمِ، فَجَعَلَهَا مُحَمَّدٌ إدَامًا لِأَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَحْدَهَا غَالِبًا فَكَانَتْ تَبَعًا لِلْخُبْزِ وَمُوَافَقَةً لَهُ، وَالْمُؤَادَمَةُ الْمُوَافَقَةُ وَمِنْهُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ حِينَ خَطَبَ امْرَأَةً: «لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» أَيْ يُوَفَّقَ، فَمَا يُؤْكَلُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا لَهُ إدَامٌ وَالْجُبْنُ وَأَخَوَاهُ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَيُقَالُ إنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِشَرِّ إدَامٍ عَلَى يَدِ شَرِّ رَجُلٍ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جُبْنًا عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَسْكُنُ فِي بَيْتِ أَصْهَارِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَبِقول مُحَمَّدٍ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا، فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ وَلَوْ أَحْيَانَا لَيْسَ إدَامًا وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ مَعَ الْخُبْزِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَهِيَ بِأَنْ يَقُومَ بِهِ قِيَامَ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ وَهُوَ أَنْ يَنْغَمِسَ فِيهِ جِسْمُهُ إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَامِ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِأَنَّ الْخَلَّ وَنَحْوَهُ لَيْسَ عَرَضَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ.
وَالْأَجْرَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْبِيضِ وَمَا مَعَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا، سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ كَوْنُهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا مَنَعْنَاهُ.
نَعَمْ مَا لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا مُوَافِقًا أَكْمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ، لَكِنَّ الْإِدَامَ لَا يَخُصُّ اسْمُهُ الْأَكْمَلَ مِنْهُ.
وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا بِأَنَّهُ يُرْفَعُ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ بَعْدَ الْخُبْزِ أَوْ قَبْلَهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّبَعِيَّةُ، بِخِلَافِ الْمُصْطَبَغِ بِهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدَ الْإِدَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ إدَامًا، إذْ قَدْ يُقَالُ فِي الْخَلِيفَةِ سَيِّدُ الْعَجَمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا حِكَايَةُ مُعَاوِيَةَ فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى صِحَّتِهَا وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْهَا إذْ يَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ عَالِمٍ أَنْ يَتَكَلَّفَ إرْسَالَ شَخْصٍ إلَى بِلَادِ الرُّومِ مُلْتَزِمًا لِمُؤْنَتِهِ لِغَرَضٍ مُهْمَلٍ لِكَافِرٍ.
وَالسُّكْنَى فِي بَيْتِ الصِّهْرِ فَقَطْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ شَرَّ رَجُلٍ، فَآثَارُ الْبُطْلَانِ تَلُوحُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَدَفْعُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمَا بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ هُوَ فِعْلُ الْفَمِ وَالْحَلْقِ وَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِيهِ ثَمَّةَ فَتَحْصُلُ التَّبَعِيَّةُ حِينَئِذٍ.
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ كَوْنَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْفَمِ بَعْدَ رَفْعِ كُلٍّ عَلَى حِدَتِهِ تُحَكَّمُ إذْ هُمَا فِيهِ إذًا جِسْمَانِ مُتَكَافِئَانِ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا رُفِعَ صِبْغًا لِلْخُبْزِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سَدُّ الْجُوعِ بِالْخُبْزِ لَا بِالصِّبْغِ.
وَأَمَّا الْجِسْمَانِ الْمُتَكَافِئَانِ فَكُلٌّ يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْجُوعِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى الْآخَرِ فِي رَفْعِهِ.
قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَكْسِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إلَّا رَغِيفًا فَأَكَلَ مَعَهُ الْبِيضَ وَنَحْوَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَهُمَا وَحَنِثَ عِنْد مُحَمَّدٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُسَمَّى عِشَاءً وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ (وَالسُّحُورُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ.
ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي حَقِّهِمْ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ (مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) وَهَذَا تَسَاهُلٌ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى لَا يُعْتَرَضُ بِهِ.
فَإِنَّ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي الْوَقْتَيْنِ لَا لِلْأَكْلِ فِيهِمَا.
فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ فَالتَّغَدِّي الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّعَشِّي الْأَكْلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَخْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ يُسَمَّى عِشَاءً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ، إذْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ» وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
هَذَا وَتَفْسِيرُ التَّغَدِّي بِالْأَكْلِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى آخِرِهِ مَذْكُورٌ فِي التَّجْرِيدِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَوَقْتُ التَّغَدِّي مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ، وَيُشْبِهُ كَوْنَهُ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَفِيهَا التَّسَحُّرُ بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ، وَيُوَافِقُهُ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى السَّحَرِ قَالَ: إذَا دَخَلَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَقْتُ الْغَدَاءِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَوَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَكْثَرُ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ السُّحُورِ مِنْ مُضِيِّ أَكْثَرِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا: وَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ انْتَهَى.
فَعُرْفُهُمْ كَانَ مُوَافِقًا لِلُّغَةِ لِأَنَّ الْغَدْوَةَ اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوَّلُهُ فَالْأَكْلُ فِيهِ تَغَدٍّ، وَقَدْ أُطْلِقَ السُّحُورُ غَدَاءً فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ «هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» وَلَيْسَ إلَّا مَجَازًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاةِ، وَكَذَا السُّحُورُ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَالسَّحَرُ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سُمِّيَ مَا يُؤْكَلُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِقُرْبِهِ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سَحُورًا بِفَتْحِ السِّينِ وَالْأَكْلُ فِيهِ تَسَحُّرًا، وَالتَّضَحِّي الْأَكْلُ فِي وَقْتِ الضُّحَى وَيُسَمَّى الضَّحَاءُ أَيْضًا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَوَقْتُ الضُّحَى مِنْ حِينَ تَحِلُّ الصَّلَاةُ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَأَصْلُ هَذِهِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَن فُلَانًا حَقَّهُ ضَحْوَةً: فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَإِنْ قَالَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ فَلَهُ مِنْ حِينَ تَطْلُعُ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَالنَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ.
وَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَيَّهمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يُمْسِيَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَسَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَسَاءِ الثَّانِي وَهُوَ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ: وَالضَّحْوَةُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَالتَّصْبِيحُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى ارْتِفَاعِ الضَّحْوَةِ: يَعْنِي الْكُبْرَى لِأَنَّهُ مِنْ الْإِصْبَاحِ وَهَذَا يُعْرَفُ بِتَسْمِيَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنه غَدْوَةً فَهَذَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ.
قولهُ: (ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً) وَكَذَا السُّحُورُ، فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الشِّبَعِ لَا يَحْنَثُ بِحَلِفِهِ مَا تَغَدَّيْت وَلَا تَعَشَّيْت وَلَا تَسَحَّرْت.
وَيُرَدُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «تَعَشَّوْا وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ حَشَفٍ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَفًّا مِنْ حَشَفٍ لَا يَبْلُغُ فِي الْعَادَةِ نِصْفَ الشِّبَعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَعَ الشِّبَعِ لِلْقَطْعِ مَا بِقولهِمْ مَا تَغَدَّيْت الْيَوْمَ أَوْ مَا تَعَشَّيْت الْبَارِحَةَ وَإِنْ كَانَ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ وَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْغَدَاءِ وَأَخَوَيْهِ فِي حَقِّ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَا يَعْتَادُونَهُ مِنْ مَأْكُولِهِمْ، فَلَوْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ الْخُبْزِ فِي الْغَدَاءِ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ اللَّبَنِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْحَضَرِيَّ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبَ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْبَدْوِيُّ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ غِذَاءُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَلَوْ أَكَلَ غَيْرَ الْخُبْزِ مِنْ أُرْزٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُعْتَادٍ التَّغَدِّي بِهِ حَتَّى شَبِعَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيهِ (وَإِنْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَعُمِلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ نَوَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ) مِنْ الْمَلْبُوسِ أَوْ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ لَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ نِيَّتُهُ دِيَانَةً، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاخْتَارَهَا الْخَصَّافُ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ لِتَعْيِينِ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ.
وَالثَّوْبُ فِي إنْ لَبِسْت وَالْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا تَنْصِيصًا فَهُوَ مَذْكُورٌ تَقْدِيرًا وَهُوَ كَالْمَذْكُورِ تَنْصِيصًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِضَرُورَةِ اقْتِضَاءِ الْأَكْلِ مَأْكُولًا، وَكَذَا اللُّبْسُ وَالشُّرْبُ، وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ ضَرُورِيٌّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَالضَّرُورَةُ فِي تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَتَصْحِيحُهُ لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى مَأْكُولٍ لَا عَلَى مَأْكُولٍ هُوَ كَذَا فَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ، فَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ أَوْ لَهُ عُمُومٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْقَابِلَ لِلتَّخْصِيصِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ لِمَآلِهَا إلَى كَوْنِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُثْبَتَ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ لُبْسِ الثَّوْبِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَقْبَلُهُ الْقَاضِي مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: يُعْتَبَرُ تَخْصِيصًا لِلْمَصْدَرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الطَّلَاقِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ أَيْضًا ضَرُورِيٌّ لِلْفِعْلِ وَالضَّرُورَةُ مُنْدَفِعَةٌ بِلَا تَعْمِيمٍ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ طَلِّقِي نَفْسَك حَيْثُ جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَقَبْلَ الْعُمُومِ حَتَّى صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، بَلْ الْحَقُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ، وَكَمَا قُلْتُمْ فِي قولهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى السَّفَرَ مَثَلًا يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ إلَى غَيْرِهِ تَخْصِيصًا لِنَفْسِ الْخُرُوجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى مَكَان خَاصٍّ كَبَغْدَادَ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَكَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَكَذَا يُرَادُ تَخْصِيصُ فِعْلِ الْأَكْلِ، وَهَكَذَا قولكُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَضْمُونِ لِلْفِعْلِ.
قُلْنَا: ذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَإِنْ عَمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ لِأَنَّ عُمُومَهُ ضَرُورَةٌ تُحَقِّقُ الْفِعْلَ فِي النَّفْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي خُصُوصِ مَحَلِّهِ الْخَاصِّ: أَعْنِي بَعْدَ لَفْظَةِ لَا فِي لَا آكُلُ إلَّا بِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ هُنَاكَ، وَمَا لَيْسَ ثُبُوتُهُ إلَّا ضَرُورَةً أَمْرٌ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ غَيْرَهُ، وَلَا يَثْبُتُ مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ فِي النَّفْيِ ثُبُوتُ الْمَصْدَرِ الْعَامِّ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ ثُبُوتُ التَّصَرُّفِ بِالتَّخْصِيصِ فَلَا يَقْبَلُهُ، بِخِلَافِ إنْ أَكَلْت أَكْلًا فَإِنَّ الِاسْمَ حِينَئِذٍ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَيَقْبَلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ هُوَ لَا يُشَكِّلُ الْفَرْقَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَذْكُورِينَ لَيْسَ عَيْنَ الْأَكْلِ الضِّمْنِيِّ لِلْفِعْلِ الضَّرُورِيِّ الثُّبُوتِ فَقَامَ الْمَذْكُورُ مَقَامَ الِاسْمِ وَقَبْلَ التَّخْصِيصِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخُرُوجِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ الْقَاضِي أَبُو الْهَيْثَمِ وَالْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ وَالْقَاضِي الْقُمِّيُّ وَالْقَاضِي أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهَا عَلَى مَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت خُرُوجًا وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ الْكَاتِبِ.
وَمَنْ الْتَزَمَهَا أَجَابَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي نَفْسِهِ مُتَنَوِّعٌ إلَى سَفَرٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا قُبِلَتْ إرَادَةُ أَحَدِ نَوْعَيْهِ وَبِهِ أُجِيبَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ، فَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ الْمُسَاكَنَةُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَمُطْلَقَةٌ وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي دَارٍ، فَإِرَادَةُ الْمُسَاكَنَةِ فِي بَيْتٍ إرَادَةُ أَخَصِّ أَنْوَاعِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ أَوْ لَا يَنْكِحُ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ دُونَ امْرَأَةٍ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ وَالتَّنَوُّعُ فِي أَسْبَابِهِ.
وَكَذَا لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ وَقَالَ عَنَيْت بِأَجْرٍ وَلَمْ يَسْبِقْ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَبَى فَحَلَفَ يَنْوِي السُّكْنَى بِالْإِجَارَةِ أَوْ الْإِعَارَةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا بِغَيْرِ أَجْرٍ حَنِثَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ وَعَنَى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ مُتَنَوِّعٌ إلَى مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَمَا يُوجِبُهُ لِغَيْرِهِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ، بِخِلَافِ السُّكْنَى نَفْسِهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَنَوَّعُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا الْكَيْنُونَةُ فِي الدَّارِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَنَوَى كُوفِيَّةً أَوْ بَصَرِيَّةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ، وَلَوْ نَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً صَحَّتْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ فِي الْجِنْسِ كَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ اخْتِلَافٌ بِالْجِنْسِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِلَادِ اخْتِلَافٌ بِالصِّفَةِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ عَيْنُ ذِكْرِ وَلَدٍ لَهُ آبَاءُ إلَى آدَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهَا أَبٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَأَرَادَ بَعْضَ الْآبَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ الصِّفَاتُ مَذْكُورَةً بِعَيْنِ وَلَدِ آدَمَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو الْمَوْجُودُ عَنْ صِفَةٍ فَثُبُوتُهَا مُقْتَضَى الْوُجُودِ لَا اللَّفْظِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْخَارِجِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَا بَيْنَ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشِّرَاءِ، فَكَمَا أَنَّ اتِّحَادَ الْغُسْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا إمْرَارُ الْمَاءِ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَيْسَ إلَّا قَطْعُ الْمَسَافَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُوصَفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ فِي الزَّمَانِ فَلَا تَصِيرُ مُنْقَسِمَةً إلَى نَوْعَيْنِ إلَّا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ كَمَا فِي الْخُرُوجِ الْمُخْتَلِفِ الْأَحْكَامِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ وَالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلِفٌ حُكْمُهُمَا فَيُحْكَمُ بِتَعَدُّدِ النَّوْعِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ وَالسُّكْنَى لَيْسَ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى وَكُلٌّ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ لِأَنَّ الْكُلَّ قَرَارٌ فِي الْمَكَانِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي لَا آكُلُ وَلَا أَلْبَسُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يُقَدَّرُ لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ: رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. أَوْ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ شَرْعًا مَثَلَ أَعْتِقْ عَبْدَك وَلَيْسَ قول الْقَائِلِ لَا آكُلُ يُحْكَمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَلَا مُتَضَمِّنًا حُكْمًا لَا يَصِحُّ شَرْعًا.
نَعَمْ الْمَفْعُولُ: أَعْنِي الْمَأْكُولَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ وُجُودِ فِعْلِ الْآكِلِ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامٍ كَذَلِكَ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يُسْتَدْعَى مَعْنَاهُ زَمَانًا وَمَكَانًا، فَكَانَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قولنَا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ، وَبَيْنَ قَامَ زَيْدٌ وَجَلَسَ عَمْرٌو، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ اقْتِصَارًا وَتَنَاسِيًا، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ وَجَعَلُوا الْمَحْذُوفَ يَقْبَلُ الْعُمُومَ، فَلَنَا أَنْ نَقول: عُمُومُهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَقَدْ صَرَّحَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ جَمْعٌ بِأَنَّ مِنْ الْعُمُومَاتِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ الْمَعَانِي إذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي كَمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ هَذَا الْمَحْذُوفُ إذْ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِتَنَاسِيهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ، إذْ لَيْسَ الْغَرَضُ إلَّا الْإِخْبَارُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِمَا قُلْنَا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّخْصِيصِ فِي بَاقِي الْمُتَعَلَّقَاتِ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَا يَأْكُلُ فِي مَكَان دُونَ آخَرَ أَوْ زَمَانٍ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِنْ صُوَرِ تَخْصِيصِ الْحَالِ أَنْ يَقول لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ قَائِمٌ وَنَوَى فِي حَالِ قِيَامِهِ فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ الْقَائِمَ فَإِنَّ نِيَّتَهُ تُعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ إذْ لَا يُعْقَلُ الْفِعْلُ إلَّا بِعَقْلِيَّتِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ نَقْطَعُ بِتَعَقُّلِ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِدُونِ إخْطَارِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ لَا مَدْلُولًا لِلَّفْظِ.
هَذَا، وَكَوْنُ إرَادَةِ نَوْعٍ لَيْسَ تَخْصِيصًا مِنْ الْعَامِّ مِمَّا يَقْبَلُ الْمَنْعَ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَصْرٍ عَامٍّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَيْك قوله: «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ» تَخْصِيصٌ لِاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَالنِّسَاءُ نَوْعٌ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ النَّوْعِ لَيْسَ إلَّا إخْرَاجُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ تَخْصِيصُ السَّفَرِ تَخْصِيصُ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فَيَسْتَمِرُّ الْإِشْكَالُ فِي يَمِينِ الْمُسَاكَنَةِ وَالْخُرُوجِ وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ مَنْ ذَكَرْنَا.
وَلَا يُجَابُ بِمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ جَوَابًا عَنْ إيرَادِ قَائِلٍ لَوْ صَحَّتْ نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ لَا بَيَانُ تَخْصِيصٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْخُرُوجِ، وَكَمَا فِي قولهِ أَنْتِ بَائِنٌ قُلْنَا نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ بَيَانُ نَوْعٍ مِنْ وَجْهٍ وَتَخْصِيصٌ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ عُمُومٌ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا كَانَ تَخْصِيصًا، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمِلْكِ بَيَانُ نَوْعٍ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا فَقُلْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ يَصِحُّ هَذَا الْبَيَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَلْفُوظًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَخْصِيصٌ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَضَاءِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ قولهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَصِحُّ نِيَّةً أَيَّ أَنْوَاعِ الْبَيْنُونَةِ شَاءَ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَعَمَّ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَعُمُّ اسْتِغْرَاقًا.
بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ لَوْ قُلْت رَأَيْت رَجُلًا لَا يَعُمُّ أَصْنَافَ الرِّجَالِ اسْتِغْرَاقًا بِخِلَافِ مَا رَأَيْت رَجُلًا.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ) حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفُ الْمَفْهُومِ.
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْكَرْعِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا فَمُنِعَتْ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا) أَيْ يَتَنَاوَلَ بِفَمِهِ مِنْ نَفْسِ النَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى بِإِنَاءٍ حَنِثَ بِهِ إجْمَاعًا، وَقَالَا: إنْ شَرِبَ مِنْهَا كَيْفَمَا شَرِبَ بِإِنَاءٍ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ كَرْعًا حَنِثَ لَا فَرْقً بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قولهِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا بِإِنَاءٍ أَوْ كَرْعًا فِي دِجْلَةَ أَوْ نَهْرٍ آخَرَ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَاءِ إلَيْهَا ثَابِتَةٌ فِي جَمْعِ هَذِهِ الصُّوَرِ.
وَقولهُمَا قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَجْهُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَفْهُومُ مِنْ قولنَا شَرِبَتْ مِنْ دِجْلَةَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إمَّا مَجَازُ حَذْفٍ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ، أَوْ مَجَازُ عَلَاقَةٍ بِأَنْ يُعَبِّرَ بِدِجْلَةَ عَنْ مَائِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ لِأَكْثَرِيَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِشُهْرَةِ جَرْيِ النَّهْرِ مُقَرِّرِينَ لَهُ بِأَنَّ عَلَاقَتَهُ الْمُجَاوَرَةُ، ثُمَّ هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْكَرْعِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ فَيَعُمُّ الْكَرْعَ وَغَيْرَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ كَيْفَمَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَلْقَى وَأَدْخَلَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ دُخُولًا وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلْكَلَامِ الْكَرْعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ يَفْعَلُونَهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُسْتَعْمَلًا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً فَيَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَمَّا لَمْ تُهْجَرْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا، إلَّا أَنَّهُمَا يَقولانِ حَنِثَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَا إهْدَارُ هَذَا الْقِسْمِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْكَرْعَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَالْمَعْنَى ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ نَفْسِ دِجْلَةَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَيْهَا نَفْسِهَا، فَإِذَا وَضَعَ الْفَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ كُوزٍ وَنَحْوِهِ فِيهِ مَاؤُهَا لَمْ يُصَدِّقْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهُوَ وَضْعُ فَمِهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَمَّا مَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِقولهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَا أَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، إذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ دِجْلَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى لِأَنَّ نَفْسَ دِجْلَةَ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمَشْقُوقَةُ نَهْرًا لَيْسَ مِمَّا يُشْرَبُ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجَازُ دِجْلَةَ وَهُوَ مَاؤُهَا صَحَّتْ لِلتَّبْعِيضِ وَيَصِيرُ الْمُرَادُ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَهُوَ نَفْسُ قولهِمَا فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَاءُ دِجْلَةَ، وَعَلَى هَذَا فَيُتَّجَهُ قولهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ:
وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ انْصَرَفَ إلَى الْمَشْهُورِ مِنْهُ وَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ لِلْبَيَانِ بِأَنْ يُقَالَ وَضْعُ الْفَمِ عَلَى نَفْسِ دِجْلَةَ لَا يُفْعَلُ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لِلِابْتِدَاءِ فَلَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ دِجْلَةَ مَاؤُهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ.
فَالْمَعْنَى: لَا يَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ وَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَيَحْنَثُ بِشُرْبِ مَائِهَا كَرْعًا وَغَيْرَهُ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لَهُ بِقولهِ تعالى: {إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهْرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} إلَى قوله: {إلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا بِالْيَدِ يُخَالِفُ الشُّرْبَ مِنْهُ فَغَلَطٌ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالِاتِّصَالُ أَوْلَى إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اُبْتُلُوا بِتَرْكِ الشُّرْبِ مِنْ النَّهْرِ شُرْبَ كِفَايَةٍ وَرِيٍّ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مُطْلَقًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَافِيًا فَلَيْسَ مِنِّي إلَّا مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَدْرَ كَفِّهِ تَحْقِيقًا بِأَنَّ اغْتَرَفَهَا.
وَاَلَّذِي انْتَظَمَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا فِي الدَّرْسِ فِي تَوْجِيهِ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ عَلَى قول الْكُلِّ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ النَّهْرِ دُونَ الْمَاءِ.
وَإِرَادَةُ وَضْعِ فَمِهِ عَلَى نَفْسِ أَجْزَائِهِ مُنْتَفٍ، فَالْمُرَادُ لَيْسَ إلَّا وَضْعُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ الِاسْمِ حَقِيقَةً فِيهِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ فُرِضَ مُشْتَرَكًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ: أَعْنِي مَجْمُوعَ التَّرْكِيبِ بِوَضْعِ الْفَمِ فِي مَائِهَا حَالَ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ فُرِضَ مَجَازًا فِي هَذَا الْمَاءِ، فَمَعْنَى قولهِ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ إلَخْ أَنَّ التَّرْكِيبَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْلِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلَا أَشْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِدِجْلَةَ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَائِنُ فِي النَّهْرِ الْخَالِصِ وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَشْرَبُ بَعْضَ دِجْلَةَ: أَيْ الْمَاءَ الْخَاصَّ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ، فَظَهَرَ إمْكَانُ كَوْنِهَا لِلتَّبْعِيضِ مَعَ صِحَّةِ قولهِ لِلَّفْظِ: أَيْ التَّرْكِيبُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ هِيَ الشُّرْبُ مِنْ نَفْسِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ مَجَازُهُ فِي الْمُفْرَدِ: أَعْنِي دِجْلَةَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَائِهَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ النَّهْرِ عَلَى مَجَازِهِمَا وَهُوَ دِجْلَةُ فِي مَائِهَا لَا بِهَذَا الْقَيْدِ حَتَّى حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ بِإِنَاءٍ وَمِنْ نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنْهَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ: أَعْنِي دِجْلَةَ بِمَعْنَى النَّهْرِ.
وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ قَالَ مِنْ مَاءِ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا الْحُبِّ فَنَقَلَ إلَى حُبٍّ آخَرَ.
وَلَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ قَالَ أَبُو سَهْلٍ الشَّرْعِيُّ: لَوْ كَانَ الْحُبُّ أَوْ الْبِئْرُ مَلْآنُ فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى الِاعْتِرَافِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الِاعْتِرَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآن فَيَمِينُهُ عَلَى الِاغْتِرَاف.
وَلَوْ تَكَلَّفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكَرَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْحُبِّ وَالْبِئْرِ اخْتَلَفُوا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ بِالْكَرْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فُرُوعٌ:
لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ إجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُ، فَلِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْكَرْعِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ مِثْلُ الْفُرَاتِ فِي إمْسَاكِ الْمَاءِ فَيَقْطَعُ النِّسْبَةَ فَخَرَجَ عَنْ عُمُومِ الْمَجَازِ.
أَمَّا لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى مَاءٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْفُرَاتِ، وَالنِّسْبَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ.
وَلَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مَاءً فُرَاتًا يَحْنَثُ بِكُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فَجَرَتْ الدِّجْلَةُ بِمَاءِ الْمَطَرِ فَشَرِبَ لَمْ يَحْنَثْ.
وَلَوْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ وَادٍ سَالَ مِنْ الْمَطَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ مَاءِ مَطَرٍ مُسْتَنْقَعٍ حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَانْجَمَدَ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ ذَابَ فَشَرِبَ حَنِثَ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَعَلَهُ خُرْجًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ فَتَقَهُ فَصَارَ بِسَاطًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ حَنِثَ.
وَفِي فَتَاوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ: لَا يَحْنَثُ إذَا شَرِبَهُ لِانْقِطَاعِهِ النِّسْبَةَ الْأُولَى لِانْتِسَابِهِ إلَى الْجَمْدِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ حَنِثَ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ وَسَطِ دِجْلَةَ فَوَسَطُهُ مَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّطِّ وَذَلِكَ قَدْرُ ثُلُثِ النَّهْرِ أَوْ رُبُعِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي النِّيلِ لِأَنَّ الشَّطَّ يَنْتَفِي قَبْلَ الرُّبُعِ أَيْضًا لِسِعَتِهِ.
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَهُوَ الْمُسْكِرُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ مَطْبُوخًا لِأَنَّ الصَّالِحِينَ يُسَمُّونَهُ شَارِبَ خَمْرٍ، وَلَوْ نَوَى الْمُسْكِرَ يَحْنَثُ بِكُلِّ مُسْكِرٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا حَنِثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَالنَّبِيذِ، وَكَذَا بِالْمُسَمَّى عِنْدَنَا أَقْسِمَةً وَفُقَّاعًا لَا يَشْرَبُ الْخَلَّ وَالسَّمْنَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ.
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِالْمَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي اسْمِ الشَّرَابِ لِغَيْرِ الْمَاءِ وَيَحْنَثُ بِشُرْبِ اللِّينُوفَرِ.
وَقِيلَ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ.
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ بِغَيْرِ إذْنِ فُلَانٍ فَأَعْطَاهُ فُلَانٌ وَلَمْ يَأْذَنْ بِلِسَانِهِ.
فِي الْخُلَاصَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ، وَهَذَا دَلِيلُ الرِّضَا وَلَيْسَ بِإِذْنٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَمَزَجَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْسِمَةِ وَنَحْوِهِ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْغَلَبَةُ بِاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ مِنْهُمَا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ إنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ اللَّبَنِ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْنَ الْمَاءِ لَا يَحْنَثُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِالْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ سِوَاهُ حَنِثَ اسْتِحْسَانًا.
وَأَمَّا إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ بِأَنْ حَلَفَ عَلَى لَبَنِ بَقَرَةٍ فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ كَالْجِنْسَيْنِ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ عِنْدَهُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ بَلْ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا يَمْتَزِجُ بِالْمَزْجِ، أَمَّا فِيمَا لَا يَمْتَزِجُ كَالدُّهْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّهْنِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ.
(مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) يَعْنِي إذَا مَضَى الْيَوْمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهِ تُصَوَّرُ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْبِرِّ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقول بِانْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْغَمُوسُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَحْنَثُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُوَقَّتِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ، فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ بِفَوَاتِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ؛ أَمَّا فِي الْمُؤَقَّتِ فَيَجِبُ الْبِرُّ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبِرِّ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَلَا يَجِبُ الْبِرُّ فِيهِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) سَوَاءٌ عَلِمَ وَقْتَ الْحَلِفِ أَنَّ فِيهِ مَاءً أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا مَضَى الْيَوْمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ وَلِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْوَقْتِ عِنْدَهُمَا إلَى وُجُوبِ الْبِرِّ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ تَصَوُّرُ الْبِرِّ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا لِبَقَاءِ الْمُقَيَّدَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَمِمَّا ابْتَنَى عَلَى الْخِلَافِ: لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَن زَيْدًا الْيَوْمَ فَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَيَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنهُ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ جَاهِلٌ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا جَهْلَهُ بِمَوْتِهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ انْعَقَدَتْ وَحَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى حَيَاتِهِ الْقَائِمَةِ فِي ظَنِّهِ وَالْوَاقِعُ انْتِفَاؤُهَا فَكَانَ الْبِرُّ غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ كَمَسْأَلَةِ الْكُوزِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ إحْدَاثُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ فِيهِ لَكِنَّهُ مَاءٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
فَإِنَّ الْحَلِفَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهِ حَالَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ إذْ ذَاكَ فَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا.
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَن هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ فَأَكَلَ قَبْلَ اللَّيْلِ أَوْ لَيَقْضِيَن فُلَانًا دِينَهُ غَدًا وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَلَا عِلْمَ لَهُ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ أَوْ قَضَاهُ قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأهُ فُلَانٌ قَبْلَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا وَانْعَقَدَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ إنْ رَأَيْت عَمْرًا فَلَمْ أُعْلِمْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ زَيْدٌ فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا أَوْ قَالَ هُوَ عَمْرٌو لَا يُعْتَقُ عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْإِعْلَامِ فَلَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ، وَعِنْدَهُ يُعْتَقُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ وَفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ ثُمَّ أَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لَهُ، وَكَذَا لَيَضْرِبَنهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنهُ.
وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ حَمْلًا أَوْ مَنْعًا أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فَكَانَ مَحِلُّهَا خَبَرًا يُمْكِنُ فِيهِ الْبِرُّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاتَ وَلَا انْعِقَادَ إلَّا فِي مَحِلِّهَا، وَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ فَلَا حِنْثَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا مُنْعَقِدَةً لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا حَيْثُ يَنْعَقِدُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ عَادَةً، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا.
قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَيَنْعَقِدُ أَوَّلًا فِي حَقِّهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْخُلْفِ لِلْعَجْزِ الظَّاهِرِ، وَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْغَمُوسُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ حَيْثُ كَانَ لِلْبِرِّ مُسْتَحِيلًا فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ لِلْحَالِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا.
قولهُ: (فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ إلَخْ) لَا شَكَّ أَنَّ هُنَا أَرْبَعُ صُوَرٍ: صُورَتَانِ فِي الْمُقَيَّدَةِ بِالْيَوْمِ أَوْ وَقْتٍ آخَرَ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَصُورَتَانِ فِي الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُمَا هَاتَانِ أَيْضًا؛ فَفِي الْمُقَيَّدَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ وَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُ وَيَحْنَثُ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ الدَّائِمِ عَنْ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إلَى الْمَوْتِ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ تَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا، فَإِذَا أُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا لِانْعِقَادِهَا ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ عَنْ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطِ بَقَائِهَا وَهُوَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ حَالَ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَعِنْدَهُ يَتَأَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُنَاكَ يَحْنَثُ.
وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَنْعَقِدُ، وَيَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَفِيهِ مَاءٌ تَنْعَقِدُ اتِّفَاقًا لِإِمْكَانِ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا أُرِيقَ حَنِثَ اتِّفَاقًا.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمُطْلَقَةِ إلَّا لِانْعِقَادِهَا فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَ حَالَ الِانْعِقَادِ لِفَرْضِ وُجُودِ الْمَاءِ حَالَ الْحَلِفِ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُقَيَّدَةِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ مُطْلَقًا آخِرَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ الْمُطْلَقَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا حَالَ الْحَلِفِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ حَالَ الْإِرَاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْحِنْثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ.
وَلَا فَرْقَ أَنَّ التَّأْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْفِعْلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ عَلَيْهِ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا يُرْجَى لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَكِنَّ اللَّفْظَ مَا أَوْجَبَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ مُضَيَّقًا مُتَعَيَّنًا إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَصُبَّ لِهَذَا بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِ الْحِنْثِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا إلَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ حَلِفِهِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ طَلَاقِهَا.
فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبِرُّ مَرْجُوًّا وَلَا رَجَاءَ لَهُ هُنَا.
وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَا يَثْبُتُ هَذَا الْيَأْسُ إلَّا عِنْدَ الْإِرَاقَةِ فَيَحْنَثُ إذْ ذَاكَ، وَهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا ذَكَرَ الْوَقْتَ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ذُكِرَ كَانَ الْبِرُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَعِنْدَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَائِتٌ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ إذْ ذَاكَ لَيَشْرَبَن مَا فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ.
وَعَلِمْت بِهَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا بَقَاءَ التَّصَوُّرِ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ هُوَ فِي الْمَعْنَى اشْتِرَاطُ التَّصَوُّرِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَإِنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: وُجُوبُ الْبِرِّ فِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ بِمَعْنَى تُعِنْهُ حَتَّى يَحْنَثَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ إلَى الْمَوْتِ فَيَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَالْمُؤَقَّتَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ الْيَمِينُ عِنْدَ آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْمُؤَقَّتَةِ وَلَمْ تَبْطُلْ عِنْدَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الْمُطْلَقَةِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَهَبِي لِي صَدَاقَك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ أَبُوهَا إنْ وَهَبْت لَهُ صَدَاقَك فَأُمُّك طَالِقٌ، فَحِيلَةُ عَدَمِ حِنْثِهِمَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ بِمَهْرِهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا وَتَقْبِضَهُ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَهَبْ صَدَاقَهَا وَلَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ إذَا أَرَادَتْ عَوْدَ الصَّدَاقِ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ.
وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبًا لِخُلْفِهِ ثُمَّ يَحْنَثُ بِحُكْمِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً.
كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) يَعْنِي إذَا حَلَفَ مُطْلَقًا كَمَا هِيَ فِي الْكِتَابِ.
أَمَّا إذَا وَقَّتَ فَقَالَ لَأَصْعَدَن غَدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذْ لَا حَنِثَ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً كَمَاءِ الْكُوزِ فَلَا تَنْعَقِدُ.
وَلَنَا أَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ مُمْكِنٌ وَلِذَا صَعِدَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَبَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا تَحْوِيلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ بِخَلْعِهِ صِفَةَ الْحَجَرِيَّةِ وَإِلْبَاسِ صِفَةِ الذَّهَبِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا مُتَجَانِسَةٌ مُسْتَوِيَةٌ فِي قَبُولِ الصِّفَاتِ أَوْ بِإِعْدَامِ الْأَجْزَاءِ الْحَجَرِيَّةِ وَإِبْدَالِهَا بِأَجْزَاءٍ ذَهَبِيَّةٍ.
وَالتَّحْوِيلُ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَهُوَ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَعَلَّهُ مِنْ إثْبَاتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ لَا الْبِرُّ مُتَصَوَّرًا فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبَةً لِخُلْفِهِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ كَمَا قُلْنَا مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَثْبُتُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ فَحُكِمَ بِالْحِنْثِ إجْمَاعًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ الَّذِي لَا مَاءَ فِيهِ لَا يُمْكِنُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ فَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ.
فَمَحَطُّ الْخِلَافِ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ لَفْظٍ مُتَصَوَّرٍ فَمَعْنَاهُ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَقَّلًا مُتَفَهَّمًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.